عالم الجنقصص جن

حكاية أشرف مع كتاب شمس المعارف ولطائف العوارف

حكاية أشرف مع كتاب شمس المعارف ولطائف العوارف

“إنتهت العطلة الصيفية وعدنا إلى الدراسة، وفي أحد الأيام كنت أبحث في مكتبة جدي رحمه الله عن كتاب “صفوة التفاسير” لمؤلفه الشيخ ممدو علي الصابوني، وبينما أنا منهمك في البحث عن الكتاب لفت انتباهي وجود كتاب مهترئ قديم بين الكتب كان عنوانه الكبير هو “شمس المعارف الكبرى”، تهجأت عنوان الكتاب عدة مرات وأنا أحاول استيعاب مضمونه، ثم تشجعتُ على فتحه أخيرا، إن المرحوم جدي كان إمام مسجد ورجلا متدينا ولا شك أنه كتاب ديني، بدأت أقلب صفحاته عشوائيا وما جذب انتباهي في البدء هي لغة الكتاب الغريبة والمعقدة وكثرة الرموز التي يتضمنها ووجود أوراق صغيرة بين الصفحات مكتوبة بخط منمق ليس خط جدي بالتأكيد، ثم فهمتُ أن تلك الكتابات لم تكن سوى شروحا لرموز ذلك الكتاب ومعانيه الغامضة.

لقد تملكني الفضول للبحث أكثر عن مضمون الكتاب في الإنترنت ويا ليتني ما فعلت! صدمتُ من نتائج البحث وتبين لي أن الكتاب هو أحد أخطر الكتب العربية طرا في تحضير الجن والشياطين وتسخيرهم وممارسة السحر عموما.
أمضيت سائر اليوم وشطرا من الليل في البحث والتنقيب ومشاهدة الفيديوهات التي تتحدث عن الموضوع والشهادات المختلفة لأناس يتكلمون عن أقرباء لهم ماتوا بسبب الكتاب وقد خرجت بخلاصة أن الكتاب محرم شرعا وخطير بسبب تضمنه لمواضيع لم يستطع أدهى السحرة الإحاطة بها، ومن بين المعلومات التي استرعت انتباهي أن هناك أربع نسخ أصلية فقط متبقية من الكتاب دُونت على جلود حيوانات خرافية كما أن هناك فقرات منه كتبت بالدم لأن المداد عجز عن تدوينها من شدة فظاعتها وأن النسخ المطبوعة في المكتبة الشعبية في بيروت ما هي إلا تقليد يغلب عليه التحريف وتملؤه الأخطاء، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم أستطع معرفته هو لماذا يوجد كتاب كهذا في مكتبة جدي؟!

بعد عودتي للمنزل بدأت أطرح على أمي أسئلة عامة بشأن كتب جدي وما فهمته منها أن هناك نزاعا كبيرا كان قائما بسبب تلك الكتب نظرا لقيمتها التاريخية وأن وزارة الثقافة حاولت المستحيل لتحصل عليها لدرجة أن الدولة عرضت على العائلة مقابلا كبيرا لقاء تلك الكتب إلا أنها كانت ترفض في كل مرة باعتبارها إرثا عائليا.

مرت الأيام والأسابيع وصراع نفسي خفي يمزقني: هل أقرأ الكتاب أم أغض الطرف عنه خاصة بعدما عرفت عن حرمته وأن مجرد قراءته تعتبر شركا بالله تعالى!؟ لكن نفسي الأمارة بالسوء سولت لي قراءته أخيرا من باب التثقف والمعرفة وهونت لي فظاعة ما أنا مقبل عليه بدعوى أنني لن أفعل شيئا سوى القراءة وأن ما سأقوم به على أية حال أفضل بكثير مما يرتكبه الآخرون من شرب خمر وزنا وغيرها من الموبقات… وأنه لن يصيبني سوء لمجرد القراءة.

وقد صادف قراري هذا أول أيام العطلة الجامعية… فأغلقت علي بابي وفتحت الصفحة الأولى وكانت أول كلمة تقع عليها عيني هي “الحرق” لأنها كانت محاطة بدوائر بقلم الرصاص وشرعت في قراءة مقدمة الكتاب وكررت قراءتها ثلاث مرات دون أن أفهم منها شيئا سوى كلمات بسيطة بسبب تعقيد لغتها ثم تذكرت تلك الأوراق المدسوسة وسط صفحات الكتاب فأخرجتها وكانت رائحة الكافور تفوح منها وقد دُونت بقلم رصاص وكان الخط الذي كُتبت به جميلا ومرتبا حتى أنني كثيرا ما كنت أستغني عن قراءة الكتاب وأنغمس في قراءة تلك الشروح…
وهكذا أمضيتُ خمسة عشر يوما وأنا أقرأ ذلك الكتاب دون توقف… لقد كنت أقضي الليل سهرانا في قراءة الكتاب والنهار نائما وأخبر أسرتي أنني أسهر في مذاكرة الدروس والتحضير للامتحانات، كانت هناك مواضيع لم أستطع مواصلة القراءة فيها بسبب خطورتها من قبيل كيفية قتل آدمي بالسحر وكيفية التحكم في أقوام الجن ومواضيع أخرى تدخل في الشرك بالله تعالى لا أستطيع التحدث عنها هنا.

كان أكثر ما أثار استغرابي في هذا الكتاب هو تضمنه لآيات قرآنية وفي بعض الأحيان تفصيلا لأسماء الله الحسنى ثم فجأة ينقلب موضوعه مباشرة إلى الكفر والإلحاد بكلام أستغفر الله عنه، وبعد أن انتهيت من الكتاب أحسست أنني أصبحتُ مثقفا في مجال قليل من الناس يعرفه حق معرفته وأعدته إلى مكانه وحمدت الله أنه لم يقع لي شيء وتأكدت أن تلك التحذيرات والتنبيهات المتكررة من الكتاب ما هي إلا خزعبلات وهراء… وكم أخطأت التقدير!

بعد أيام قليلة بدأت أشعر بأشياء غريبة تقع لي… فقد أصبحت أنفر من مخالطة الآخرين والكلام معهم إلا لماما كما صرتُ أعجز أحيانا عن تحديد أوقات اليوم فيخيل لي مثلا أن الوقت هو الثامنة صباحا لكنه في الحقيقة الرابعة بعد الزوال، ظننت في الأول أن الأمر ليس سوى تأثيرا نفسيا لكن سرعان ما تفاقم الموضوع بمرور الوقت حتى جاء يوم استيقظت فيه فوجدت يديّ الإثنتين مخضبتان بلون بني! اجتاحني الرعب وتوجهت إلى الحمام مسرعا؛ غسلت يدي عدة مرات غير أن اللون لم يختفي رغم كل المحاولات فتوجهت إلى أمي وأريتها يدي؛ أصيبت بالفزع مثلي وبدأت تقرأ علي ما تيسر من القرآن الكريم ثم اتصلت فورا بأحد الشيوخ الذي طرح علي بعض الأسئلة الغريبة من قبيل هل أستحلم كثيرا؟ وهل تحدث لي أشياء غريبة في الحمام؟ كنت أجيبه دون أن أشير من قريب أو بعيد إلى موضوع الكتاب فأخبرني في النهاية أن ما يوجد في يدي إنما هو حناء وأن ليلة الأمس كانت عرس زواجي بجنية فصرخت مرعوبا: جنية؟؟

لم أخف في حياتي من قبل بهذه الطريقة في الحقيقة… صبرني الشيخ وأخبرني أنه سيبطل هذا الزواج وحضر إلى منزلنا في وقت لاحق ثم وضع حفنة من الملح في يدي وبدأ يتمتم بآيات من القرآن الكريم وما هي إلا لحظات حتى رأيت الشيخ يقف مذعورا ثم هب خارجا من البيت، حاولت اللحاق به وأنا أناديه لكنه لم يلتفت إلي لحظة…

عدت أدراجي متحسرا والقهر والخوف يعصفان بي من كل جانب لكنني لم أشأ أن أفاقم هموم أمي، وبحكم حس الفكاهة الذي طالما كنت أتمتع به استقبلتها بابتسامة مرهقة وأخبرتها ممازحا أننا أصبحنا أثرياء أخيرا كيف لا وشمهروش قد أصبح صهرنا؟ إلا أنني لن أنسى تعابير وجه أمي التي لم تحرك شفتيها قط على غير عادتها وهي تنظر إلي نظرة من يشيع جنازة…

أسرعت إلى احتضانها وحاولت طمأنتها ووعدتها أن كل شيء سيكون على ما يرام، لكنني في أعماق نفسي كنت أستشعر معاناتها معي، خاصة وأنها لم تكن تفتر بعد ذلك عن قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار وهي تنظر إلي أتعذب نفسيا بسبب عجزي عن معرفة المواقيت بل وحتى السنوات فكان يخيل لي أحيانا أننا في سنة 2011 بينما نحن في 2016 وأشد ما كنت أقاسيه من عذاب كان عندما يحين وقت الليل وأخلد إلى النوم فتراودني كوابيس غريبة فكنت أرى مثلا أنني أنهش جسدي بوحشية فأستيقظ مفزوعا والعرق يتقاطر مني، وإلى حدود ذلك الحين كنت مصمما على أن الأمر لا يعدو أن يكون تأثيرات نفسية وهلوسات ذهنية بسبب الكتاب وحاول عقلي جاهدا تجاهل قصة الحناء إلى أن جاء يوم استيقظت في الثالثة بعد منتصف الليل لأجد نفسي مغمورا بالدماء… لوهلة ظننت الأمر مجرد كابوس آخر لكن بعد لحظات تبين لي أنني أصبت برعاف شديد فتوجهت إلى المغسل وغسلت وجهي وعدت إلى السرير وفي الغد تكرر نفس الموضوع فأخبرت نفسي أن الموضوع صدفة بحتة إلا أن الأمر صار يتكرر معي كثيرا لدرجة أنني كنت أنام وأضع إلى جانبي عدة مناشف قطنية تحسبا لذلك.

وفي أحد تلك الليالي استيقظت في الثالثة بعد منتصف الليل مرعوفا وبعد أن اغتسلت خرجت من المنزل هائما على وجهي، ولأنني كنت أرتدي سترة وأعتمر قبعة رياضية تحجب تفاصيل وجهي ظن حارس السيارات أنني أحد اللصوص الأوغاد فسحب هراوة من تحت منضدته وجاء مهرولا نحوي وما كدت أنطق بكلمة حتى خر على وجهه وتدحرج أرضا وكأن شيئا خفيا إعترض سبيله وصار يوسعه ضربا! فررت من المكان عائدا إلى المنزل وفي الغد تناقل سكان الحي أن سيارة مجهولة أصابت الحارس وفرت إلى وجهة غير معروفة وإلى يومنا هذا لم أنطق بشيء ويبدو أن الحارس قد نسي كل شيء عن تلك الواقعة… وفي تلك الليلة فقط تأكدت أنني فعلا قد تزوجت جنية وأن لعنة الكتاب قد أصابتني.

***

توقفت عن الذهاب إلى الجامعة ولم تعد تفارقني الكوابيس وأصبح الرعاف ملازما لي وضاقت علي الأرض بما رحبت بعد أن صارت أيامي حصصا من العذاب الرتيب إلى أن جاء يوم خميس أضمرت فيه قرارا حاسما خاصة وأنني كنت قرأت في الكتاب من قبل أن “في يوم الخميس يلتقي قرنا الشيطان ويطفو شره على الإيمان” فقلت لنفسي لم يعد لدي شيء أخسره فلأجرب شيئا لعله يخلصني…

توجهت إلى الكتاب وانتقلت إلى الجزء المتعلق بتحقيق الأماني فوجدت الكثير من الطرق غير أنني لم أفهم إلا طريقة وحيدة كانت مشروحة جيدا على الورق متعلقة بجدول توجد فيه عدة رموز وأمضيت نصف ساعة تقريبا أنقل تلك الرموز وأملأ الخانات التسعة والثلاثين بأسماء الله الحسنى وأشياء أخرى كثيرة (لن أخبركم بها حتى لا تجربوها) وعندما انتهيت تمنيت! ثم جلبت سكينا ووضعتها إلى جانبي واستلقيت على فراشي وبقيت أفكر هل كل هذا ناجع أم أنني أزيد الطين بلة؟

لم يغمض لي جفن تلك الليلة وسيطر علي الهلع ثم نهضت وأضأت المصابيح وجلست في منتصف السرير أنتظر حلول الصباح لكنني عدت إلى فراشي مجددا واستلقيت محاولا تسلية نفسي بأي خاطر فانطفأت الأنوار فجأة ولا أخفيكم سرا! لقد انتصب شعر رأسي من شدة ما جزعت وتجمدت في مكاني كأنني صنم ولم أستطع حتى تحريك رموش عيني وحاولت في سري استذكار بعض الآيات القرآنية لكن الرعب كان قد شل فكري وعندما طال الصمت ولم يحدث شيء نهضت راكضا في اتجاه زر النور وأشعلته ثم جلست القرفصاء في إحدى زوايا الغرفة أدعو الله دون توقف إلى أن طلع الصباح.

ارتديت ملابسي وكانت الساعة تشير إلى السادسة صباحا وقررت التوجه إلى الجامعة مباشرة ولأنها كانت تقع في ضواحي المدينة فكرت في الجلوس قليلا في الغابة المجاورة لها هربا من رعب الليلة الماضية وهكذا امتطيت سيارة أجرة وعند وصولي إلى هناك كان المكان خاليا من الناس تماما والبرد قارس فقصدت إحدى المقاعد الخشبية على الطريق وجلست ثم وضعت سماعات في أذني وبدأت أستمع للأغاني وفجأة سمعت صوت فتاة صغيرة فنزعت السماعات ونظرت فلم أجد شيئا! إنه ليس صوتا في الموسيقى! أعدت السماعات ثم سمعت صوت فتاة يناديني “أشرف”! وقفتُ مرعوبا والتفت أمامي وخلفي وفي كل اتجاه فلم أجد أحدا وعندما عدت للمقعد باغتني شيء فجأة وضمني ضمة حقيقية فقفزت مجددا من مكاني كالملسوع وصرخت بهسيترية… ثم بدأ الدم يتقاطر من أنفي فلم أدري هل أمسحه أم أتحقق مما يحدث بجواري!
وبعد لحظة سمعت نفس الصوت هذه المرة في أذني واضحا فكدت أصاب بسكتة قلبية واسترسل الصوت قائلا: أنت سمعتني وكدت تموت فما بالك لو رأيتني! أردت الصراخ لكن حبالي الصوتية لم تسعفني هذه المرة وبدأت دموعي في الانهمار وطفقت أكرر في نفسي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشرعت في قراءة آية الكرسي وأنا أبكي حتى وصلت إلى مقطع “وسع كرسيه السموات والأرض” فسمعت الصوت يكمل الآية إلى آخرها ثم قال ضاحكا: “هل تريدني أن أكمل سورة البقرة إلى آخرها؟ إنني مسلمة مثلك تماما…” ما إن سمعت ذلك حتى خررت مغشيا علي…

عندما أفقتُ وجدت الصوت مازال يتحدث في أذني؛… لم أفهم شيئا وصرت أقرأ القرآن بصوت مرتفع والصوت في أذني يردد معي وعندما تلعثمت في القراءة توقفت وبدأت أخاطب نفسي: أشرف، هذا مجرد وهم، كن رجلا وكفاك بكاء… لكن الصوت قال: أنظر إلى الشاحنة… هناك شاحنة تمر في الطريق! التفت إلى الشاحنة ثم نهضت راكضا في اتجاهها… أردت أن ألقي نفسي أمامها لكنها انقلبت فجأة رغم أن سرعتها لم تكن تتجاوز 20 كلم! انقلبت على جانبها، وتمنيت في تلك اللحظة أن يأخذ ملك الموت روحي لأستريح من كل هذا العذاب، هرولت في اتجاه الشاحنة وأنا مرعوب أكثر من سائقها وسرعان ما اجتمع الناس حولها وتوقفت السيارات وخرج السائق لكن لم يمسسه سوء، كنت قابعا وسط الزحام ليس رغبة في معرفة ما يحدث لكن مخافة أن أبقى وحيدا وبدأ السائق يحكي للناس ما وقع له ويشير لي قائلا: إن هذا الفتى رأى كل شيء بعينه؛ لأنني وحدي كنت شاهدا على الحادثة لكنني أنكرت من شدة الخوف وكنت أكرر دون توقف لم أرى شيئا!

لم أدري لحظتها هل أغادر أو أبقى في مكاني… حتى قادتني قدماي دون شعور إلى نفس المقعد، حاولت أن أكون ربيط الجأش هذه المرة ولسان حالي يقول: ما الذي سيقع أسوأ مما وقع؟! لا يوجد أسوأ من الموت وقد تمنيته دون أن أناله… تشهدت بالشهادتين وبدأت أفكر ماذا عساي أقول حتى أتمكن من سماع الصوت مرة أخرى… لكنني سمعته فجأة يقول: هل صدقت أم تحتاج المزيد من البراهين؟؟!
لم أحر جوابا فلذت بالصمت، ثم عزمت على الكلام فخرج صوتي متهدجا مرعوبا وأنا أسأل: ماذا تريدين مني؟؟!
أجاب الصوت: لا تخف مادمت أنت من طلبتني فلن أستطيع إذايتك، أنا أدعى بهقاء…
وقبل أن ينهي الصوت كلامه صرختُ: أنا لم أطلب شيئا دعيني وشأني!!
فشعرت بصفعة قوية على وجهي لم أتلقى مثلها في حياتي فسكتُ وكأن أحدهم قام بتخديري، طأطأت رأسي وأنا أسمع الصوت…
لقد أجابتني على كل خواطري وتساؤلاتي في الحدود التي كانت تريد ودون حتى أن أسألها أحيانا… وشرحت لي أنني أولا لو لم أكن أعيش في منزل محصن (سأعرف لاحقا أن جدي رحمه الله كان قد حصن المنزل في حياته حتى لا يتسرب إليه أذى) لكنت ميتا الآن ولجن جنون كل من يعرفني أو لانتحروا وأن أكبر أخطائي أنني كنت أقرأ كل ما لا أفهمه بصوت مرتفع وأن الكتاب يتضمن طلاسم واستدعاءات مجرد تحريك الشفاه بها أثناء تلاوتها قد يحضر ويسخر أبناء جنسها!! وأن ما أعانيه في حياتي اليومية بعد قراءة الكتاب لا يعد سوى تهديدات ومضايقات بسيطة لأن الجن الذي تم استدعاؤه يجد صعوبة في دخول منزلنا المحصن… وهنا فقط عرفت حجم المصيبة التي ورطت نفسي فيها!! وأخبرتني أنني عندما كنت أقرأ الكتاب ووصلت لفصل عن التزاوج والتناكح مع الجن وجدت شروحات مفصلة له في الورق وبقيت أقرأ وأعيد بصوت مرتفع وهمسا ودون صوت إلى أن فهمت كافة ما في ذلك الفصل وتصادف حينها أن بهقاء كانت قريبة فوقع عليها الاختيار، ولأن الزواج بآدمي عند الجن مرغوب لم تصدق خبرا ودخلت للمنزل بسهولة بحكم أنها مسلمة…

كانت بهقاء تهب للإجابة قبل أن أطرح أي سؤال! إلى أن وصلت لمرحلة فقدت معها إحساسي بالخوف شيئا ما فتشجعت وطلبت رؤيتها لكنها رفضت وأخبرتني أن للجن القدرة على التشكل أربعين مرة وأنها مازالت صغيرة وماتزال تحتاج فرصها مع الوقت، سألتها عن سنها فصدمتني عندما أخبرتني أنها تبلغ مائتين وأربعين سنة! وأخبرتني أنها من قبيلة مشهورة بالجمال وأنهم أشبه في هيئاتهم بالآدميين وأننا عندما نقترن سأتمكن من رؤيتها… بدأت أرتاح لذلك الصوت قليلا رغم جنون الموقف وبدأت أنسى مخاوفي وسألتها هل ستحضر لي متى أردت؟ فسمعت الصوت يضحك وأخبرتني أنها فقيرة ومسلمة وأنها لا تستطيع مقارفة الحرام الذي يفعله الجن المسخر أو المتعاون مع السحرة! وأن هناك أشياء في عالمنا تعد بسيطة لكنها تعد في عالمهم ثمينة وتشكل ثروة، فالجن يتعاون مع السحرة ويلبون طلباتهم من معلومات وأذية بشر مقابل قرابين وهدايا تتكون في الغالب من جدي أسود أو بخور؛ سألتها عن كثير من الأشياء لكن أغلب أسئلتي بقيت دون جواب خاصة الغيبيات لأنها كما أخبرتني مسلمة وأن الله وحده يعلم الغيب، وكان آخر سؤال سألتها هل الجن يعيشون في المغرب فقط؟! فقالت: ما أشد فضولكم أنتم البشر!!

خلاصة ما أخبرتني به أن الجن كان مسخرا لخدمة سيدنا سليمان مع الرياح والحيوانات وأنه كان يوجد في جبال الأطلس أكبر سجن لقومها وأن الجن مخلوقات نارية وأنه لم يكن في وسع سيدنا سليمان إعدامها فكان ينفيها لهذا السجن وكان كلما نفي جني إلى ذلك السجن اقترف أقاربه المعاصي حتى يجتمعوا جميعا هناك ما جعل المغرب أكبر موطن لهم في ذلك الوقت وأن العالم كله مليء بهم وأن كل ثقافة إنسانية تطلق عليهم مسميات مختلفة (أشباح أو كائنات فضائية أو أرواح…)

وقبل أن أغادر المكان أخبرتني أنها رأت ما فعلته ليلة الأمس من كتابة لتلك الرموز وتمنيات لهذا اضطرت لمخاطبتي لتحذرني أنني بذلك قد استدعيت أسوأ المردة وعقدت معه اتفاقا بأن ألبي طلباته ويلبي طلباتي في المقابل وأنه يتشكل في هيأة قط أسود وأنه سيطلب مني أن أخبره بطلباتي في أذنه وأنه سيظهر لي وحدي…
ففكرت في نفسي أن أطلب منه أن يبعد عني كل هذه المآسي التي وقعت فيها بسبب الكتاب لكنها سمعت أفكاري وأخبرتني أنه سيطلب مني نجاسة فطلبت منها التوضيح فأجباتني أنه سيطلب مني أشياء كأن أشرب دم الحيض أو أفعل سوءا في أمي أجلكم الله… وكان آخر كلام بهقاء أنها لن تستطيع مساعدتي في شيء وأن أهلها يستعدون لنقل روحي عندهم وكان الكثير من كلامها غير واضح وكلما طلبت رؤيتها كانت ترفض.

عدت إلى المنزل والخوف لم يفارقني لحظة… ترى هل جننتُ؟ هل كل هذا حلم؟ كيف سأحكي للآخرين ما حل بي؟؟ دخلت المنزل فوجدت أمي غاضبة وسألتني: أين اختفيت؟؟ اتصلت بك عدة مرات… فوجدت أشخاصا في المنزل جاؤوا من مدينة تارودانت رفقة أبي فسلمت عليهم ثم بادر أحدهم بالكلام: هل هذا هو المعني؟ لماذا تحلق شعرك بهذه الطريقة يا بني؟
كان هذا الرجل هو أصغرهم سنا ولا يظهر من هيأته أنه شيخ… كانوا أربعة أشخاص جميعهم جلوس وينظرون إلى أبي الذي لم يظهر أي اهتمام… ثم نهض وانصرف عندما أحس بتوجسهم منه… جلست إلى جانبهم وناديت أمي وبدأنا نشرح لهم الأعراض التي أصابتني ولم أحكي لهم شيئا مما وقع لي في تلك الصبيحة طبعا وحتى كل ما كنت أخفيه عن أمي وفي الأخير طلبت مني أمي أن أحضر الكتاب كي يلقوا نظرة عليه، ولما سمعوا كتاب هتفوا بصوت واحد: أي كتاب؟ فأجبتهم: شمس المعارف الكبرى! فامتقعت وجوههم ووقف أحدهم مرعوبا وصرخ في الآخرين: قوموا لنغادر!! وخاطبني قائلا: هل جننت يا فتى أم أنك مريض؟؟!! ثم سألني ما إن كنت قد قرأته في البيت وسرعان ما كثر اللغط والضجيج والصراخ بينهم وخافت أمي وتضرعت إليهم كي يقدموا يد العون… لكنهم كانوا خائفين جميعا ولم يستطيعوا الاقتراب من الكتاب الذي أحضرت إلا أصغرهم ذاك حيث أخذ الكتاب وصار يقلب صفحاته دون وجل بل رأيت الفرحة مرتسمة على محياه، نهره رفاقه وأمروه بأن يترك ذلك الشيء من يده لكنه لم يكن آبها بكلامهم وكأنه كطفل صغير حصل على حلواه المفضلة…

بقيت أنا وأمي نتكلم مع أحدهم وكان يدعى الشيخ موحى الروداني وكان يسكن في نواحي مدينة تارودانت ومشهورا ـ من خلال كلام أمي ـ بصلاحه وقدرته على شفاء هكذا حالات بفضل الله تعالى أما الإثنين الآخرين فكانا صامتين طوال الوقت ولا يكفان عن التحديق في، شرح لي الشيخ موحى كيف أنني وقعت في الشرك بقراءتي لذلك الكتاب وأنه لا يوجد شيخ في الدنيا يستطيع مساعدتي بل يمكن أن يتأذى إن هو حاول ذلك بسبب تلك المصائب التي أخرجتها من الكتاب! وهكذا صرت أشكل خطرا على الجميع… على نفسي وأسرتي وكل امرئ يحاول أن يساعدني دينيا!

لم يفاجئني كلام هذا الشيخ… وقد تحدثنا كثيرا عن كل الأمور ذات الصلة ثم أفصحت له عن كل شيء فأخبرني أن الجنية التي تزوجتني من المستحيل أن تتركني لأنني من سلالة سليمانية (تعود أصولها إلى سيدنا سليمان) وهذا يعد مفخرة عند الجن ومن المستحيل أن تضيع زوجا مثلي من يديها! وأن أنثى الجن إذا تزوجت آدميا لا يمكن أن تفارقه إلا بموته ولا تملك القدرة على الزواج من بعده…
وفي هذه النقطة لم أعد منتبها كثيرا لكلام الشيخ لأن انتباهي كله انصرف إلى صاحبنا ذاك الذي لم يتوقف عن تقليب صفحات الكتاب… لم أرتح إليه منذ الوهلة الأولى… لقد كانت سحنته زرقاء وتشع منها طاقة سلبية ما كما كان يتحدث بطريقة مستفزة… خاصة عندما أخبرني بضرورة أن يأخذ الكتاب لأنه من خلاله فقط يستطيع معالجتي، لكنني تفطنت لكذبه فبادلته الكذب بكذب وأخبرته أنه خرجت لي عنزة في النوم وحذرتني من أنه إن وقع الكتاب في يد أحد آخر ستأخذ روحه! خاف صاحبنا واستعاذ بالله! ثم أخرج هاتفه المحمول وحاول أن يصور بعض الصفحات خلسة من رفاقه والشيخ موحى يتحدث مع أمي… كنت أشاهد كل هذا وأنا أتساءل أي ذنب اقترفت في حياتي كي أستأهل هذا؟! ألست بشرا قد يخطئ ومن حقي أن أتوب؟؟!! كيف انقلب حالي أنا الذي كنت أضحك على أي أحد يتحدث عن الجن فصرت أنا الأضحوكة!! وأكبر مشكل كان يؤرقني كيف أنجح في دراستي وأنا الذي صار أكبر أمانيَّ الآن أن أحافظ على عقلي سليما!!

أقعدني الشيخ موحى إلى جانبه وحاول أن يهدئني قائلا أن لكل هذا مخرج واحد وأنه إن كُتب لي البقاء حيا فلن أعيش حياة طبيعية كباقي الناس أبدا مع ذلك… وأنه مهما حدث لي من أشياء رهيبة فينبغي أن أتحلى بالصبر وأن أتحمل عواقب أخطائي كرجل ناضج…

***

تكلمنا كثيرا وناقشنا العديد من المواضيع وحكى لي الشيخ موحى عن أناس دخلوا عالم السحر من باب التجربة والفضول فأعماهم الطمع إلى أن ألفوا أنفسهم غارقين في بحار من المصائب! لقد أدهشني الشيخ موحى بمستوى ثقافته العالي رغم مظهره البدوي والتعليم البسيط الذي تلقاه… تحدثنا عن الأنظمة الاجتماعية المعاصرة والحضارات المتقدمة التي تحاول جاهدة التعتيم على عالم الماورائيات وتصويره للناس على أنه محض خرافات رغم أن العلم الحديث والتقدم التكنولوجي فشلا في تفسير العديد من الظواهر كل هذا من أجل الحصول على الثقة والطاعة العمياء للأنظمة الإنسانية فقط!

استفدت الكثير من كلام ذلك الشيخ في تلك الأمسية التي انتهت أخيرا بخلاصة وحيدة مفادها أن الحل بالنسبة لي هو الحصول على مساعدة مشعوذ حقيقي لا تعرف الرحمة الربانية طريقا إلى قلبه وأنه الوحيد القادر على إقناع تلك المخلوقات بأن ما اقترفته يدي مجرد خطإ غير مقصود رغم أن هذه المخلوقات “كالقطار إذا خرج من المحطة لا يعود…” هكذا قالها الشيخ موحى.

ترك ذلك الرجل اللئيم الكتاب بعد أن انتهى من تصوير ما يريد ودخل معنا في النقاش عنوة وأخبرني أنه يعرف شخصا درس الكثير من كتب السحر وأن من الوارد أن يكون مطلعا على كتاب “شمس المعارف” وهو الوحيد القادر على مساعدتي وأنه سيذهب إليه في مدينة “الخميسات” ويجلبه لهذه الغاية… ثم أخذ أرقام هواتفنا وقال أنه سيكلمنا في أقرب وقت، تناولنا عشاءنا مجتمعين في تلك الليلة وقرؤوا ما تيسر من الذكر الحكيم ثم غادروا المنزل بعد أن دعوا لي بالكثير من الأدعية دون أن يقتربوا مني أو يلمسوني…
أوصلت الشيخ موحى إلى الباب وطلب مني أن أصبر وأحتسب هذه الأيام وألا أخرج كثيرا من المنزل إلى أن يجدوا حلا مرضيا لمعضلتي وقال لي أنه منذ اللحظة التي سيقررون فيها مواجهة تلك المخلوقات ستعمل هي نفسها على الانتقام مني ومن عائلتي خصوصا… أخذوا مبلغ ألفين وخمسمائة درهما في تلك الليلة من ضمنها مصاريف تنقل ذلك الشخص من الخميسات.

باغتني جوع شديد ذلك اليوم رغم أنه لم يمضي الكثير على تناولي العشاء فأكلت ثم توجهت للنوم دون أن أغير ملابسي لأنني كنت مرهقا كثيرا بعد يومين من الأرق المتواصل والأحداث المتلاحقة… استيقظت في التاسعة صباحا وقد استولت علي رغبة عجيبة في عض أي شيء أصل إليه فأخرجت من درج المنضدة علبة علكة وضعتها بكاملها في فمي وبدأت أمضغها بنهم ثم خرجت من الغرفة متوجها إلى الحمام فوجدت أبي وهو يجر حقيبة سفر… لقد تدهورت علاقتي بأبي منذ اليوم الذي غادر فيه أسوار السجن ولم أعد أهتم لحضوره وهو لا يتكلم معي! مررت من أمامه دون سلام وواصلت طريقي للحمام وغسلت أسناني ووجهي ثم رفعت وجهي ناظرا في المرآة وبقيت أتأمل في تفاصيله كأنني أراه لأول مرة! لقد شعرت أن شيئا ما تغير في ملامحي! لقد بدوت أصغر سنا وحتى اللحية الخفيفة التي كانت تحيط وجهي اختفت! أبلغ من العمر عشرين سنة وأنا الآن أنظر إلى فتى عمره خمسة عشر عاما! ظننت أن الأمر مجرد أوهام أخرى لكن كل من قابلني بعد ذلك كان يخبرني أنني أبدو أصغر سنا!

خرجت وجلست في الصالة وبالي منشغل تماما بأحداث الأمس وكلام بهقاء وأنا أمضغ العلكة بعنف إلى أن جرحت لساني وعندما أحسست بحرارة الدم في فمي تذكرت أنني لم أصب بالرعاف هذا اليوم! غريب! فنهضت لأخبر أمي ليرن الهاتف فجأة… من عساه يرن في هذا الصباح؟! فأجبت… ألو!
إنه صاحبنا أصغر الجماعة… ثم عرفتُ أن اسمه يوسف، ظل يسألني عن أحوالي ثم أخبرني أنه كلم ذلك الرجل من الخميسات وأنهما سيأتيان يوم الخميس المقبل!
فرحبت بالفكرة وقبل أن أنهي المكالمة أخبرني أنه يريد شيئا مهما… سألته ماذا؟ طلب مني أن أتوجه إلى الكتاب في الفصل الفلاني والصفحة الفلانية وأتلو عليه ما يوجد فيها… لم أعد استطيع الاقتراب من ذلك الكتاب مجددا فأخبرته أن أبي سافر وأخذ معه الكتاب… وبمجرد ما قلت له ذلك قطع الخط دون وداع!
أخبرت أمي بالأمر وجلست إلى حاسوبي ثم شب الفضول في نفسي حول طلب ذلك المدعو يوسف لكن سرعان ما منعني الخوف والرهبة من الاقتراب مجددا من ذلك الكتاب… كنت متوجسا من ظهور صوت بهقاء مجددا لكن لم يحدث شيء في ذلك الصباح وأمضيت سائر اليوم مرتاحا رغم أن الملل كان يفتك بي والرغبة الجامحة تطوقني للخروج من المنزل لكنني كنت أقمع رغبتي تلك بحزم وأمضيت اليوم أطل من النافذة كأي طفل صغير لم تسمح له أمه بالخروج!

لا يوجد شاطئ قبالة منزلنا ولا ساحة… ليس هناك سوى خربة ترتكب فيها جميع أنواع الجرائم… وبقيت أراقب أبناء الحي وهم يدخنون لفافات الحشيش ومنهم من يتعاطى المخدرات الرخيصة “البابيلا” تساءلت كيف أنني الوحيد الذي لم يبتلى بهذه الأشياء في الحي! وكيف أن جل رفاق طفولتي ضاعت حياتهم بين السجون والإدمان وأعدت شريط الذكريات منذ ولادتي إلى اليوم الذي حصلت فيه على شهادة الباكالوريا وكيف زغردت نسوة الحي بإنجازي هذا ورفعني الرفاق على أكتافهم مهللين وكأنني حصلت على إكسير الحياة! وكيف كانت الفرحة تشع من وجه أمي لمَ لا وابنها هو الأول الذي حصل على شهادة الباكالوريا في الحي…
أمي هي التي عرفت كيف تربيني ودفعت ثمن ذلك من فرحها وهنائها ومازالت!

عدت إلى الصالة ونفسي تخبرني أن أنادي على بهقاء لكنني كنت أحاول مقاومة هذه الرغبة ولكن سرعان ما استسلمت وبدأت أصيح بهقاء! بهقاء! وأنا التفت في كل جهة ثم فكرت أن أصرخ أكثر لعلها تسمعني وبدأت أكرر بهقاء! بهقاء! (لا تنطقوا هذا الإسم بصوت مرتفع) ثم سمعت: ما دهاك يا فتى هل جننت؟؟! سرت رعشة رعب في جسدي والتفت لكنه كان صوت أمي في المطبخ وهي تسخر مني وإلى جانبها أختي التي لم نخبرها بشيء فقالت أختي الدنيئة مخاطبة أمي: ربما بدأ يتعاطى شيئا من تلك السموم!
لم أعر كلامها اهتماما وذهبت إلى غرفتي وأمضيت سائر اليوم أمام شاشة حاسوبي دون أن آكل شيئا لكنني كنت أكثر من شرب الماء… نمت هانئا ليلتي تلك واستيقظت في الصباح نشيطا… فانشرح صدري وقلت لعلني شوفيت مما كنت مصابا به! فتناولت الفطور مع أمي وأخبرتها أنني عازم على الخروج بعدما استبد بي الملل لكنها لم تسمح وحاولت منعي وبدأت في المشاجرة معي…
صممت على الخروج مع ذلك وارتديت ملابسي وخرجت إلى المقهى وجلست مع أحد أصدقائي وبقينا ندردش ولم أكن قد حكيت ما حصل معي لأي مخلوق من قبل لكنني فكرت أن أخبر صديقي شيئا يسيرا من معاناتي فهو صديقي في جميع الأحوال ولعله يستطيع مساعدتي فقلت له أنني أصاب بالرعاف في الثالثة صباحا من كل يوم تقريبا وأرى أشياء غريبة في أحلامي! لكن اللعين بدأ يضحك مني ساخرا وقال أن ما أتحدث عنه لا يصدقه سوى الجهلاء والأطفال الصغار ونصحني بالتوجه للطبيب لأنه الأقدر على معرفة المشكلة والعلاج…
غيرت الموضوع بسرعة… ولأنه كان قد حصل مؤخرا على رخصة السياقة ومازال فرحا بها إقترح علي أن نمضي في جولة خارج المدينة على متن سيارة والده حتى يتدرب أكثر على السياقة وبالمرة نقضي بعض الأوقات الممتعة فوافقت دون تردد وانطلقنا في السيارة، عدت بعد ذلك للمنزل في ساعة متأخرة وعندما فتحت الباب وجدت أمي تنتظرني وهي في حالة عصيبة ثم بدأت تمطرني بالأسئلة: ما بك تلهث؟ أين تأخرت؟… فحاولت إيهامها أن لا شيء حدث وأنني كنت على عجالة من أمري ثم انطلقت إلى غرفتي مسرعا ونزعت قبعتي فوجدت خصلات شعر طويلة في داخلها… إنه شعر بنت! ما الذي يحدث مجددا؟؟

أخذت حماما سريعا وعدت للغرفة، أضأت مصباح الغرفة فاحترق… من أين سآتي بمصباح جديد في هذه الساعة؟ قررت أن أنام في الظلام على أن أترك باب الغرفة مفتوحا… فتحتُ عيني في الثالثة من منتصف الليل كما العادة لكن ليس بسبب الرعاف هذه المرة… بل لأجد نفسي أنام واقفا في وسط الغرفة ويداي مضمومتان إلي! عدت إلى السرير واستلقيت ثم تشهدت… فتحت عيني على السقف لأرى الضباب يحجب كل شيء… وقفت لأضيء المصباح فتذكرت أنه محروق! وجدت باب الغرفة مقفلا… غريب! أردت أن أفتحه لكنني عجزت عن ذلك! بدأت أصيح على أمي وأنا أطرق الباب لكن لا أحد يصغي… عدت لأبحث عن المفتاح في جيوب البنطلون وفجأة وجدت نفسي قد رُفعت إلى أعلى بسرعة خاطفة لأصطدم بالسقف ثم وقعت على الأرض بنفس السرعة… ظننت في البداية أن خزانة الملابس التي كانت خلفي قد وقعت علي… وبسبب الدوخة والظلام الدامس والصدمة نهضت من مكاني فورا وعاودت الصراخ فوجدت نفسي في فراشي موثقا بشيء غير مرئي! حاولت الصراخ فلم أستطع كأن شيئا يغلق فمي… لا صدى لصوتي… أجهشت بالبكاء كصبي صغير… ثم شعرت بحشد غير مرئي يقفون حولي… رمشت بعيني لأشعر بصفعة على وجهي كانت خفيفة كصفعة آدمية… رمشت مجددا لأشعر بصفعة أقوى هذه المرة… ثم رمشت الثالثة فتلقيت لطمة أصمت أذني… وبدأ الدم غزيرا يسيل من أنفي حاولت أن أمكث أطول وقت دون أن أرمش لكن صبري نفذ فرمشت لأجد نفسي قد غبت عن الوجود… لا أعلم كم استغرقت الغيبوبة لكن كان أول صوت أسمعه هو صوت أمي تبكي: إستيقظ يا بني لا تفطر قلبي عليك!
نهضت مفزوعا وشهقت شهقة طويلة كأن أحدهم أنقذني من الغرق… كانت شمس الصباح قد أشرقت، نظرت إلى نفسي فوجدت ملابسي ملطخة بالدماء ظننت أن مكروها أصابني… جعلت أمي تسألني إن كنت قد تشاجرت مع أحد ليلة أمس حاولت طمأنتها وأخبرتها أنه الرعاف كالعادة ثم أشارت إلى وجهي… وما الذي أصاب وجهك إذن؟ توجهت للحمام بخطوات محطمة ونظرت في المرآة فوجدت وجهي متورما وقد ازرق لونه… ماذا أصابني يا إلهي؟! نزعت ملابسي الفوقية فصدمت مما رأيت… الكدمات تملؤ جسدي فلم أتحمل وكسرت المرآة بقبضتي… لم أجد بدا من إخبار أمي بما حدث، حاولنا الاتصال بالشيخ موحى لكنه هاتفه لم يكن يجيب… ثم رننت على هاتف يوسف وحكيت له ما حدث معي فأخبرني أن الجن بدؤوا انتقامهم مني وأنهم لن يدعوني وشأني إلى أن أصاب بلوثة عقلية… نصحني ببعض الأشياء التي ينبغي علي فعلها وأخبرني أن أمكث في المنزل إلى يوم الخميس وهو موعد لقائي بذلك الرجل من الخميسات…

***

جاء يوم الخميس وأخذت حماما سريعا ثم ارتديت الكندورة (لباس مغربي ذو أكمام قصيرة يكون فضفاضا وقصيرا)… لقد فقدت السمع في إحدى أذناي منذ تلك الليلة المشؤومة… جلست أنتظر القادمين فرن الهاتف في حدود الخامسة مساء… كان رقم يوسف… طلب مني أن أخرج للقائهم في مدخل الحي، وعندما ذهبت إلى هناك فوجئت بفخامة السيارة التي كان يقودها ذلك الرجل من الخميسات، كان في متوسط العمر وملابسه تشي بالثراء، كان يوسف جالسا إلى جواره فترجلا عن السيارة وسلمت عليهما وصاح يوسف بطريقته المستفزة: مرحبا ببطلنا! وعانقني ثم انتبهت أن هناك فتاة كانت تجلس في الخلف لم تشح ببصرها عني لحظة، كان منظرها ملفتا لأنها كانت ترتدي عباية سوداء وتحيط عينيها بكحل ثقيل، وعندما انتبه ذلك الرجل إلى نظراتها أخبرني أنها ابنته سارة وأنها ألحت في القدوم معه لأنها تحب التردد على مدن الشمال كثيرا!
لوح لها بيده فابتسمت ثم عرضتُ عليهما الذهاب إلى المنزل فطلب مني الرجل الانتظار للحظة… توجه إلى السيارة وبقينا أنا ويوسف الذي أخبرني أن مصيري بين يدي ذلك الرجل وأن علي أن أمنحه ثقتي المطلقة وأن ألبي كافة طلباته، لم أرفع نظري عن ذلك الرجل إلى إن خرج من السيارة وأعطى مفتاحها لابنته ثم جاء إلينا، سألت يوسف عن الشيخ موحى فأخبرني أنه سيأتي لاحقا بعد أن نتفاهم على ما سنقوم به…
حضر الرجل (الذي لم ولن أعرف إسمه مطلقا) وقال لي: لنتوجه إلى المنزل! سألته: ألن تحضر ابنتك معنا؟ ضحك ضحكة غريبة وأجابني أنها تفضل الذهاب في نزهة بالسيارة… انطلقنا إلى المنزل وعندما وصلنا إلى الباب وهممت بفتحها شعرت بذلك الرجل مسمرا في مكانه، نظرتُ إليه مستفهما… فقال لي: سيكون من الأفضل أن نذهب إلى المقهى، ألححت عليه في الدخول فأخبرني أنه لا يستطيع! إنتابني هنا إحساس غير عادي بسبب تغير مزاجه المفاجئ فطلبت منهما الانتظار ريثما أخبر أمي، أخبراني أنهما سينتظراني عند مدخل الحي حيث التقيتهما، دخلت المنزل وأخبرت أمي بما حدث لكنها أصرت على القدوم معي، أقنعتها بالبقاء لأن علي لقاءهما وحدي حتى أتفاهم معهما ولأرى كيف سيساعدانني في مشكلتي كما أن حضورها معنا لن يكون مناسبا، تركتها وهي تلهج بالدعاء معي…
توجهت إلى مدخل الحي وكان الرجلان يخوضان حديثا ذا شجون وبمجرد اقترابي منهما شعرتُ بهما يغيران الموضوع، وقفت وقلت لهما: ماذا الآن؟ فأخبرني الرجل من الخميسات ـ الذي سأدعوه بالأقرع من الآن لأنه كان حليق الرأس تماما ـ أنه اتصل بابنته وأن علينا أن ننتظر قدومها.

***

مرت لحظات قليلة قبل أن تأتي ابنة الأقرع وهي تقود بسرعة كبيرة وعندما وصلت إلينا كبحت الفرامل بعصبية فنظر الأقرع إليها وقال لها مؤنبا: ماذا قلنا يا سارة؟ التفتَ إلي وقال لي أنه لم يمضي شهر منذ أن حطمت الرينج إيفوك الخاصة بأمها بسبب تهورها في السياقة… أدرت عيني في حدقاتهما تعجبا… كيف يملك هذا الدجال كل هذه الثروة؟! نزلت البنت وخاطبت يوسف في خبث غريب: إصعد أنت إلى جوار أبي ودعني أجلس أنا إلى جوار هذا الوسيم!! لقد أحرجتني طريقة كلامها واستغربت كيف تتحدث بهذا الشكل المائع أمام والدها! ركبنا السيارة وعندما جلست بجانبها بدأت ترمقني مجددا بتلك النظرات الثابتة… تجاهلت نظراتها تلك وأدرت وجهي نحو الطريق، كانت أمي ترن مرارا لكنني لم أرغب في التحدث معها أمامهم.
وصلنا إلى مركز المدينة وعندما هممنا بالجلوس في إحدى المقاهي توجهت الفتاة إلى طاولة أخرى وأخرجت سيجارة من حقيبتها وأشعلتها، لقد لفتت بذلك انتباه جميع رواد المقهي لأن من النادر في مدينتنا أن تجد فتاة تدخن أمام الملإ…
بدأ الأقرع في التكلم معي وقال الكثير من الكلام وما فهمت منه اختصارا “أن الموت ينتظرني”، كان يتظاهر بالخطر أثناء كلامه حتى يجعل له وقعا مخيفا لكنني كنت قد تعديت تلك المرحلة بكثير ولم أعد أرغب سوى في الخلاص وبأي ثمن… انهمكنا في الحديث وكان يوسف يحاول التدخل بالكلام في الحدود الدينية… ختم الأقرع حديثه بالقول: أشرف، لم يعد هناك شيء نخفيه… إذا أردت الخلاص من كل هذا فعليك أن تضع خمسة وعشرين مليون سنتيم فوق الطاولة… كررت في ذهول: خمسة وعشرين مليون؟ قهقهت بصوت مرتفع… من أين عساي أن أحضر هذا المبلغ؟؟!! فأجاب أنه سيأخذ من المبلغ المطلوب نسبة 10 % فقط وأن الباقي سيذهب إلى “الأجواد”.
أول فكرة تبادرت إلى ذهني أن صاحبنا هذا مجرد نصاب، طلبت منهم أن ينتظروني وتوجهت إلى خارج المقهى، حاولت الاتصال برقم الشيخ موحى لكن هاتفه كان مطفأ مجددا! إتصلت بأمي وطلبتْ أن تأتي إلى حيث نوجد فشرحت لها الوضع، قالت أنها مستعدة لبيع المنزل مقابل أن ننتهي من هذا الكابوس، أنا لم أكن مقتنعا بالموضوع برمته وعدت إليهم وأخبرتهم أن هذا المبلغ من المستحيل أن أدبره ولو بعت إحدى كليتي، التفت إلي يوسف وقال: لم يعد أمامنا سوى حل واحد وهو أن تعطينا الكتاب… كدت أوافق ثم انتبهتُ للفخ: كيف تغير مجرى الكلام من خمسة وعشرين مليون إلى الكتاب فجأة؟! وفهمت أن قيمة الكتاب أكثر من ذلك المبلغ بكثير… أظهرت الموافقة على طلبه، وقف الأقرع أخيرا وخاطبنا: هيا بنا ماتزال الطريق طويلة أمامنا… لم أفهم شيئا: طريق؟؟ إشرحوا لي… قال الأقرع: أنت من الآن فصاعدا مجرد عبد مأمور وإن أردت النجاة من مأساتك فعليك أن تطبق فمك وتفتح عينيك وأذنيك جيدا وأن تلبي كل طلب يُطلب منك! ثم أخبرني بكل برود “ومع ذلك إذا انتهت هذه التجربة بموتك فنحن آسفون وإذا نجوتَ فمرحبا بك معنا”، كنت أتصور أن الأمور أبسط من هذا بكثير… كأن يرش ماءا على جسدي ويعطيني شيئا لآكله ثم أنهض بالسلامة وقد شوفيتُ! لكن الموضوع كان أعقد من تصوراتي الساذجة بكثير!

أرجعوني إلى المنزل وطلبوا مني أن أرتدي ملابس بيضاء وأن أقلم أظافري، أمضيت حوالي نصف ساعة في الداخل بينما كانت أمي تكلمهم عند باب البيت ثم نزلت في السلالم ولن أنسى الطريقة التي عانقتني بها أمي… ولأول مرة في حياتي تقول لي: أحبك يا بني! إنتابني شعور من يوشك أن يوضع حبل المشنقة حول رقبته، قبلتني أمي ومسحت دموعي بيديها ودست في يدي ألف درهم دون أن تنطق كلمة واحدة ثم أقفلت الباب وراءنا… وعند أول خطوة في طريقنا سمعت صرخة عالية من خلف الباب… أردت الرجوع لكنهم منعوني… شعرت أنها آخر مرة سأرى فيها وجه أمي! كنت أشيع الجدران والأزقة والجيران بنظرات صامتة حتى وصلنا إلى السيارة فوجدت حشدا من الصبية الصغار حولها، المساكين… من النادر أن يشاهدوا سيارة فولكسفاغن طوارق أمامهم…

***

لا أعرف إلى أين وجهتي… خرجنا من المدينة ولم ينبس أحد منا بكلمة، أنا أشاهد الطريق والناس… سألت يوسف هل سنمر بالشيخ موحى؟ فأجاب أنه سيلحق بنا غدا في المكان الذي سنتوجه إليه، فسألته وما هو المكان الذي سنتوجه إليه؟ فقال: ليس هاما أن تعرف الآن.

شعرت كأنني مخطوف؛ وبدأت أراقب علامات الطريق حتى أعرف إلى أين أنا ذاهب لكن حتى تلك اللوحات توقفت عن الظهور بعد فترة… ثم شرع الأقرع يسألني (لا أعرف كيف لم يخطر ببالي من قبل أن أسأله عن اسمه؟!) عن قصتي من الأول فحكيت له كامل القصة دون أن أخفي شيئا هذه المرة… وعندما سردت عليه ما وقع لي مع بهقاء أخبرني بأمور غريبة منها أنني سألتقي بهم اليوم، من هم؟! لم أفهم شيئا من كلامه، كنت متوجسا من ابنته سارة لأنها كانت تقوم بحركات غير طبيعية فأحسست أن وضعها أسوأ من وضعي، بعد ساعات طويلة من السفر شعرنا بالجوع جميعا فأوقف الأقرع السيارة في إحدى البلدات على الطريق كانت تُعرض فيها مطاعم مختلف أصنف اللحوم المشوية من كفتة وكباب وغيرها، قلت لنفسي هذه هي الفرصة كي أسأل أحدهم عن المكان الذي نتواجد فيه لكن يوسف لم يفارقني منذ اللحظة التي نزلنا فيها من السيارة ففهمت أنهم لا يريدونني أن أختلط بالناس…
جلسنا وعندما حضر النادل ووضع الأكل بادرته بسرعة: مرحبا بنا عندكم في…؟ وسكتُ، أكمل النادل الجملة بتلقائية تامة: مرحبا بكم عندنا في “تاوريرت”! حدجوني بنظرات حادة وكأن لسان حالهم يقول: يا لها من محاولة ذكية! أنهينا وجبتنا فقمت لأدفع فسألني الأقرع: إلى أين؟ فأجبته: لأدفع الفاتورة، قال بلهجة صارمة: عد مكانك فأنا لا أدفع! استغربت من كلامه…
خرجنا من المطعم وسلم الأقرع على النادل ثم انصرفنا دون أن ندفع فاتورة الطعام التي بلغت بدون شك أربعمائة درهم! وهنا عرفت أن هذا الأقرع ذو شأن خطير وأن علي توخي الحذر معه، توجهنا إلى السيارة وبدأنا ندردش حول كل شيء… بدأت سارة ترفع الكلفة بيننا فجأة وانطلقت تسألني عن إسمي ومستواي الدراسي، بدت لطيفة في الحقيقة عكس الانطباع الذي خلفته عندي في البداية… لقد كانت جميلة إلا أن الطريقة التي تضع بها المكياج وتصرفاتها الغريبة أفسدوا جمالها هذا، وكلما كنت أسألها عن أبيها أو أمها كانت تغير الموضوع بسرعة.

مكثنا قرابة الساعة في السيارة وكلما كنت أسألهم: ماذا ننتظر؟ كانوا يغضبون ويجيبون: عليك بالصبر والتوقف عن الثرثرة فكل ما نصنعه هنا هو من أجلك! بعد قليل حضرت سيارة مرسيدس 207 كبيرة وعلى متنها شخص قوي البنية، وعندما ترجل عنها بدا عملاقا بشكل مخيف، كان مظهره يوحي بأنه مجرد فلاح فظ يمضي حياته بين الشقاء في الحقول والنوم، توجه إليه الأقرع ومعه يوسف وتبعتهما وعندما رآني سألهما: هل هذا هو؟ حدجته بنظرة غاضبة، نظر إلى حذاء النايكي الرياضي الذي كنت أرتديه وكان يبلغ ثمنه ألفا ومائتي درهم تقريبا ثم قال بفظاظة: إذا متَّ سآخذ حذاءك هذا، أخافني كلامه وعدتُ إلى السيارة، سألت سارة عن ذلك الشخص فأخبرتني أنها لا تعرفه في البداية ثم بعد لحظة قالت إنه صديق والدها، عاد الأقرع ويوسف إلى السيارة وهما يضحكان، لقد بدأت أجد أن كل هذا الهراء مجرد تمثيلية أنا ضحيتها، أدار الأقرع مفتاح السيارة وتبعنا سيارة المرسيدس التي كان يقودها ذلك الفظ وكانت الطريق طويلة وعرة وبدأ التعب والإرهاق يستبدان بي ثم غططت في نوم عميق إلى أن شعرت بيوسف يوقظني: إنهض يا أشرف لقد وصلنا، نهضت مسرعا وعندما نزلت من السيارة لفحني برد قارس في وجهي ولم يكن هناك صوت مسموع سوى صوت نباح كلاب بعيد وحفيف الشجر الذي يحيط بكل شيء، ما الذي أحضرنا إلى هذه الغابة في هذه الساعة؟ إعتقدت في البدء أننا سنسافر إلى شيخ أو ضريح صوفي كضريح بويا عمر فإذا بهم يحضرونني إلى هذا الخلاء!
صممت على المضي قُدما مهما كلفني الأمر، “هيا، هيا، لقد تأخرنا” قالها يوسف وكأنه يريد أن ينتهي من الأمر بسرعة فتبعتهم إلى أن دخلنا إلى كوخ كبير وسط الغابة، كانت المناظر قاسية؛ أكثر من عشرين شخصا يقطنون ذلك الكوخ في وضع مزري، أطفال صغار حفاة ومتسخين ورجال غارت وجوههم بسبب البؤس والحاجة، ألقيتُ السلام فلم يرد أحد، إختفى الأقرع وابنته عن أنظاري، لم أجد مكانا أجلس فيه وكان الجميع يحدقون فيَّ بفضول واشمئزاز، أردت اقتعاد الأرض لكن سيدة عجوز صرخت في وجهي: إذهب والحق بهم إلى هناك، وأشارت إلى غرفة صغيرة، نزعت حذائي وأردت ولوج الغرفة؛ كان الباب مهترئا ذا صرير فدفعته لأصدم مما رأيت! كان الضوء خافتا ولم أر في البداية سوى شعر سارة المنسدل على جسدها العاري وذاك الأقرع فوقها!! ما هذا؟! ثم سمعت شهقة من سارة وخرجت مسرعا أتعثر في مشيتي وأقفلت الباب بقوة ثم توجهت للبحث عن يوسف والغضب يستعر في داخلي… كنت أصرخ؛ يوسف! يوسف! لكن لا مجيب، ثم جاءت تلك العجوز الحيزبون تصيح مجددا: أخرجوا من هنا، أتركونا وشأننا!
لم أعرف ماذا أفعل في تلك اللحظة وبعد قليل حضر يوسف وذلك العملاق يتساءلان: ماذا هناك؟ ماذا يحدث؟ سألت يوسف: هل هذه التي في الداخل ابنة ذلك الحيوان أم من تكون؟ صرخ يوسف في وجهي: هذا ليس شأننا لقد أتينا من أجل قضاء أغراضنا ثم نغادر في حال سبيلنا، لا تسأل مجددا، لقد عرفتُ شروط الاتفاق منذ البداية…
لم أجد مفرا من الاستمرار، قلت ليوسف حانقا: هيا انطلق بنا لغرضنا ودعنا ننهي هذا الهراء، خرج إلينا الأقرع هادئا مبتسما وكأن شيئا لم يقع، حاول معانقتي لكنني أبعدته عني فقال: نحن نعرفك أشرف ونحس بمعاناتك ونريد مساعدتك لكن عليك أن تصبر معنا قليلا وتسمع الكلام لأن كل ما نفعله إنما من أجل مصلحتك، أردت أن أبصق على وجهه في تلك اللحظة… أدخلني إلى تلك الغرفة وصار يحدثني بود… وجدت سارة جالسة هناك تلعب في هاتفها المحمول ثم طلبت مني أن ألتقط لها صورة… كدت أسب تلك الـ… ثم كظمت غيظي، أخرجت الهاتف من جيبي واتصلت بأمي فوجدتها خائفة تبكي، كانت تصلي لكنها قطعت صلاتها عندما سمعت رنين الهاتف، قالت لي أشياء لا أريد تذكرها الآن، أمسكت دموعي حتى لا أبدو ضعيفا أمام الآخرين وودعتها وهي تدعو معي ووعدتها أن أتصل بها في الغد.

***

دخل علينا يوسف مهرولا: هيا نذهب لكي نبدأ في عملنا، سألته: ماذا سنفعل؟ أجابني متأففا: ها نحن بدأنا مجددا في الثرثرة! طأطأت رأسي وانطلقت خارجا، التفت خلفي فوجدت سارة ترمقني بنظرات محذرة كأنها تخبرني ألا أذهب معهم، كانت نظراتها تقول “الوداع أيها الميت!” رمقتها بنظرات نارية لأنني كنت أحتقرها في تلك اللحظة…
خرجنا إلى مشهد رهيب، الأطفال الصغار كانوا مذعورين وهم يرمقوننا، لقد كانت نقطة اللاعودة، أخذنا طريقنا في تلك القفار، البرد القارس والظلام الدامس… تقدمنا إلى سيارة ذلك الضخم وسمعنا ضجيجا بداخلها ثم فتح أبوابها الخلفية، وعندما أطللت برأسي وجدت قفصا بداخلها لكن الظلام حجب الرؤية فلم أتبين ما بجوفه في البداية؛ دققت النظر فظهر لي كلب كبير لكنه بدا لي غير طبيعي، كان حجمه أكبر من الكلاب المعتادة، أخبرني يوسف أنه ذئب! صعد الضخم إلى العربة وفتح القفص ثم أخرج الذئب الذي كان مربوطا بسلاسل ثقيلة وملجما لكنه بدا جامحا للغاية وبالكاد كان ذلك الضخم يسيطر عليه، أمرني الأقرع أن أخرج صندوقا من سيارته وحين هممت بذلك وجدت كيس خيش فأردت أن أخرجه أيضا لكنه نهاني عن ذلك ثم أمسك الكيس بيده وأشغل مصباحا محمولا وخاطبنا: هيا بنا! استدار يوسف نحوي وسألني: هل أنت مستعد؟ فأومأت برأسي نعم، فقال: هيا بنا على بركة الله! غضب الأقرع غضبا شديدا ونهر يوسف قائلا: لا تفكر حتى في إعادة تلك اللفظة مجددا!! وصار يقول كلاما شركيا لا أستطيع حتى تصوره، شدني الفضول إلى معرفة ما يوجد في ذلك الصندوق الذي أخرجت من سيارة الأقرع وفي غفلة منهم فتحت جانبا منه لأجده ممتلئا بمسحوق غريب، ما هذا؟ شممته فوجدته رمادا! ماذا عساهم يصنعون بكل هذا الرماد؟ تبعت خطواتهم في غياهب الغابة وأنا أكاد أبلل نفسي من فرط الخوف، ومع ذلك حاولت تشجيع نفسي، كنت ألاحظ كل كبيرة وصغيرة في الطريق…

لقد تمشينا قرابة الساعتين، تعبت بشدة وزادني حمل الصندوق ووعورة الطريق تعبا فطلبت منهم أن نتوقف لأخذ قسط من الراحة فأجاب الأقرع بهدوء: لا عليك، لقد اقتربنا من الوصول، أردت أن أنظر إلى هاتفي لأعرف الساعة لكنه كان مطفأ ثم بعد قليل توقفوا عن المشي وأطفؤوا الأضواء. إبتعد الرجال الثلاثة عني وبدؤوا حديثا سريا ثم عادوا وأمرنا الأقرع بوضع أحمالنا والتوقف، أقعى ذلك الذئب وبدأ يعوي عواء ثقيلا فازداد خوفي وأشد ما أخافني أن يفلت من العقال وينقض علي، بدأ الأقرع في تلاوة بعض الطلاسم الغريبة بصوت مرتفع والذئب لا يتوقف عن العواء، كان الأقرع يحفظ ويعرف كل كلمة يقولها، وفي لحظة ما عم الصمت المكان، سكت الأقرع وتوقف الذئب عن العواء، ثم تقدم الأقرع نحوي، تشهدت في خاطري وكانت جميع فرائصي ترتعد، استطعت تبين ملامحه رغم الظلام، لقد كانت عيناه جاحظتان تكادان تخرجان من محجريهما والعرق يتصبب من رأسه والزبد يحيط بفمه ثم مر من خلفي وحمل الصندوق وعاد إلى مكانه وفتحه وبدأ ينثر رماده في الهواء وهو يرطن بطلاسم أخرى، كان أشد ما شل حواسي في تلك اللحظة وزاد هلعي هو أن الرماد المتطاير لم يكن يقع على الأرض بل كأن ثقبا غير مرئيا كان يشطفه كله، التفت حولي فوجدت يوسف والضخم مرعوبين أكثر مني، لقد كانا يعرفان جيدا جسامة الموقف على ما يبدو، إنتابني إحساس أن هذه الطقوس التي تمارس الآن ليست من أجلي مطلقا وأنني لست سوى قربانا لعملية شيطانية ما، في لحظة ما انكمش الذئب على نفسه واستبد به الخوف كذلك، استدار الأقرع نحو يوسف قائلا: لقد جاء! فبادره يوسف سائلا: هل هو…؟ (لم أستطع تذكر الإسم لكنه كان طويلا وغريبا) نظرت إلى يوسف وكان موشكا على البكاء من هول المشهد، لقد كان عقلي حينها يخبرني بشيء واحد: أهرب يا ابن اللعينة! وفي نفس اللحظة أحسست بشيء مر بجانبي مسرعا كالبرق، نهض الضخم وسحب معه الذئب وهو يحمل خنجرا في يده ثم ناوله للأقرع الذي كان منشرح الوجه هذه المرة وعاد يصرخ بطلاسمه العجيبة التي تشبه اللغة الروسية وأخذ الخنجر وأمرني بالوقوف وهو يصيح، نهضت كالمشلول وتوجهت إليه بخمس خطوات كانت أطول خطوات أخطوها في حياتي، وقفت أمامه فضمني إليه وبدأ يقرأ علي كلامه الغريب ذاك ثم أطلقني وانطلق مسرعا إلى كيس الخيش وأخرج منه شيئا ووضعه في يدي، وبسبب الظلام والرعب لم أعرف ما ذلك الشيء لكنه بدا أسود وكانت تفوح منه رائحة جرذ ميت، دققت النظر فيه فألقيته بسرعة وصرخت بكل ما أملك من قوة… لقد كانت يد إنسان!! فكرت لحظتها في أن أركض بكل طاقتي وأنجو بنفسي، التقط الأقرع تلك اليد من الأرض وبدأ ينهرني ووضعها مجددا في يدي وطلب أن أمتثل لأوامره، لقد كادت قدماي تميدان بي من هول الموقف ثم وضع الخنجر في يدي الأخرى وأمرني أن أغرس الخنجر في تلك اليد، كانت يدي ترتعش بشدة وفي كل مرة كنت أوقع ذلك الشيء اللعين إلى أن تمكنت أخيرا من إغماد الخنجر في تلك اليد وضغطت عليه بكل ما أوتيت من جهد، بعد ذلك رسم الأقرع دائرة بمسحوق ما في الأرض وقال لي: كل ما أخبرك به عليك القيام به دون تردد ولا كلام، أمسك تلك اليد بيدك اليسرى وأكتب سورة الفاتحة بالمقلوب وسط هذه الدائرة! أخبرته أنني لا أعرف كيف، أخرج ورقة مكتوبة من جيبه وقال: أنقل من هذه الورقة، نفذت أوامره وأنا أشعر أنني أقوم بشيء فظيع، تخيل أن تمسك يد بشري وتكتب بها سورة قرآنية بالمقلوب على التراب!
أنهيت تلك الفظاعة وألقيت تلك اليد بعيدا عني وأطرافي ترتجف، تقدم يوسف والضخم وبدآ يحفران في المكان الذي كتبت فيه سورة الفاتحة، لقد اختفى الأقرع في غياهب الظلام للحظات، جلست قرب الذئب دون أن أبالي هذه المرة فقد كان كل إحساس إنساني بداخلي متبلدا، التفت إلى الذئب ولسان حالي يقول: من كان يقول أن الحكاية التي ابتدأت بكتاب ستنتهي بالجلوس قرب هذا الوحش في هذا المكان وهذه الساعة؟!!

أدرت وجهي إلى مكان الحفر فوجدت الأقرع قد عاد وبدأ يشارك صاحبيه في المهمة، كانوا يحفرون كجماعة من الزومبي، أحنيت رأسي وأغمضت عيني إلى أن سمعت صراخهم وعويلهم، التفت فوجدتهم يعانقون بعضهم البعض كالمجانين وقد أخرجوا صندوقا كبيرا من الحفرة، هل فهمتم الآن ماذا كان يقع؟ أحسنتم، لقد أخرجوا كنزا، أنا الذي كنت أظن أن موضوع الكنوز مجرد هراء آخر، وقفت أمامهم وأنا أراقب المشهد، خطر ببالي أن أذبح هؤلاء اللئام جميعا وأدفنهم في تلك الحفرة، وضعوا الصندوق جانبا وبدؤوا يزيحون التراب عنه بهستيرية، ثم أقبل إلي الأقرع وقد أسكرته الفرحة وأراد أن يعانقني لكنني دفعته عني بقوة، عاد إلى الصندوق وأمسك قفله وأمرني أن أبصق عليه، فهمت أن الموضوع كله في يدي وأنني أملك إفساده، فأخبرته أنني لن أفعل شيئا حتى أفهم ما يحدث هنا، بدأ الأقرع في الصياح حانقا: هذا ليس وقت الشرح إفعل ما أمرتك به!! فكرت في الفرار… التفتُ حولي لكن لم يكن هناك مفر وسط هذا القفار… لقد كانوا قادرين على اللحاق بي بسهولة والانتقام مني بأسوأ طريقة، لم أجد بدا من الانصياع لخطتهم الشيطانية تلك، كرر أوامره لي مجددا: لا يوجد لدينا وقت! هيا!
أمسكت القفل في يدي وما شد انتباهي أنه لم يكن يوجد به ثقب للفتح، بصقت عليه مرتين ولم يحدث شيء، ثم أمرني بالتوقف والابتعاد، تقهقرت إلى الوراء وأراد يوسف أن يفتح الصندوق لكن الأقرع نهاه عن ذلك: لا تفعل، ليس هنا! جمعوا كل معداتهم وطلبوا مني مرافقتهم: إلى أين؟ نفس الجواب: لا تسأل، الأقرع ويوسف يحملان معا صندوق الكنز وفوقه صندوق الرماد بينما الضخم كان يحمل على ظهره كيس الخيش ويجر بيده الأخرى الذئب…

مشينا قرابة نصف ساعة إلى أن وصلنا إلى مكان أكاد أقسم أن إنسيا لم يطأه من قبل، وقفنا هناك وكان يوسف يصيخ السمع ثم انحنى على الأرض وأزاح غطاء لم أره، أطل هناك وأضاء مصباحه، فعرفت أنه بئر، ما الذي يفعله بئر في هذا الخلاء؟ بدأ الذئب يعوي مجددا وكان الضخم يحاول تهدئته، اقتربت وأطللت برأسي في البئر ورجعت بسرعة، لقد كان عميقا جدا؛ “إنزع ملابسك” سمعت هذه الجملة ولم أعرف قائلها، التفت إلى الأقرع: هل تكلمني أنا؟؛ “نعم أنا أتكلم معك” هكذا قال الأقرع، انتفضت في وجهه: ماذا تعني بأن أنزع ملابسي يا ابن الـ…؟! أراد يوسف أن يتكلم لكنني أشرت إليه بأن يخرس، حاول الأقرع أن يهدئني قائلا: أنظر هناك؛ لا يمكنك أن تنزل بملابسك، “إنتظر لحظة، كيف أنزل إلى هناك؟؟!! هل تريدون إنزالي إلى البئر؟؟!! لا يعقل!! هل جننتم؟؟!!” أخبرني الأقرع ببرود أنه لا يوجد خيار آخر أمامي وأنني إن رفضت القيام بذلك فلن أرى ضوء الوجود ولن أنعم برغد العيش مجددا وأكون قد أفسدت كل شيء على نفسي!!
[the_ad id=”1781″]

أي سذاجة تلك التي تشل قدرات المرئ العقلية حين يقع في موقف أكبر من أن يستوعبه عقله فلا يبقى أمامه سوى الرضوخ لأي وصفة مهما بدت غبية وغير معقولة موهما نفسه باحتمال الخلاص!! ألن أرى وجه أمي مجددا؟؟!! ألن أرى وجهي في المرآة مرة أخرى؟؟!! لم يسبق لي أن عانقت أختي من قبل فلماذا أنتهي الآن؟؟!! ألن أرى ضحكات أصدقائي عندما كنت أحكي لهم النكات والقفشات!! لماذا يكون هذا قدري؟؟!! أريد فقط أن أرى أمي مرة أخرى وأقبل يدها وأعتذر لها عن كل مرة علا فيها صوتي على صوتها… أو عن كل مرة كنت أقهرها بتصرفاتي الرعناء… أحسست أن الوقت توقف بينما كنت أقف في تلك البقعة النائية من الدنيا، ماذا سأفعل الآن يا إلهي؟؟!!

التفت فوجدت يوسف قد أحضر سلما خشبيا من مكان ما ثم خاطب الأقرع قائلا: تصور أنني نسيت أين خبأته! يبدو أنهم كانوا يحضرون لهذا منذ مدة… أخبرت الأقرع أنني لن أنزع كامل ملابسي، حاول أن يقنعني لكن رأسي كان أيبس من رأس تيس، وفي الأخير قال لي: أنا فعلتُ ما علي؛ يبقى هذا شأنك!” نزعت ملابسي الخارجية وكان البرد يحطم العظام… أحضر الأقرع كيس الخيش ووضعه أمامي ونادى على الآخرين لكي يساعداه، لقد منح الله ذلك الضخم قوة العضلات لكنه حرمه من العقل فقد ترك عقال الذئب وهرول نحو الأقرع؛ فصاح فيه الأقرع: أربط ذلك الوحش أولا أيها الغبي! عاد الأقرع إلى الذئب لكن الأخير لم يكد يصدق خبرا وانطلق فارا من سجانه، رغم بؤس الموقف إلا أنني ضحكت كثيرا على هذا المنظر، وحش ضخم يجري فرارا من إنسان أضخم!! تصور أن تكون مجردا من ملابسك وأنت في صدد النزول إلى بئر عميق بينما تضحك بهستيرية على هذا المشهد! كأنها آخر مرة أضحك في حياتي! لقد أنهكت الذئب تلك السلاسل الملفوفة حول رقبته وتمكن صاحبنا العملاق من الإمساك به وربطه إلى أصل شجرة وعاد إلينا يلهث، كان المصباح الذي في يد الأقرع يشع في وجهي فلم أتمكن من رؤية ما أخرجه من الكيس؛ تقدم نحوي فوجدت حنشا أسود يلتف حول ساعده وكان يمسك رأسه بأنامله كأنه يمسك صوصا وعلى وجهه ارتسمت ضحكة عميقة، نظر إلي قائلا: جميل أليس كذلك؟ كيف يخلق ربكم شيئا جميلا كهذ ثم يزرع في داخله الشر ها؟!! هل هذا هو ربكم الرؤوف الرحيم المحب لعباده؟؟

لم أكن في موقف يسمح ببدء مناظرة دينية فأشحت بوجهي عنه وصار يقهقه… أخرج تلك اليد المبتورة من الكيس مجددا وهو يقول: ماذا تصنع هذه هنا؟ ثم ألقى بها إلى الذئب وأخرج حفنة أسنان من جيبه وأمرني أن أضعها في فمي قائلا: ضعها في فمك وإياك أن تبتلع واحدا منها، أمسكت تلك الحفنة فوجدتها أسنان آدمي! أول ما خطر ببالي أن تلك الأسنان تعود إلى صاحب اليد نفسه، وضعتها في فمي وانتظرت ما يخبرني به، أعطاني الخنجر وجعل رأس الحنش في يده اليمنى وذنبه في يده اليسرى وأمرني أن أشقه من الوسط، أومأت برأسي رافضا فصرخ: عليك أن تذبحه وتشرب دمه، من أين سأحضر لك أسدا هنا؟ من أين سأحضر تمساحا؟؟ عندما سمعت كلامه المجنون ذاك أخرجت تلك الأشياء من فمي وجلست إلى الأرض أجهش بالبكاء… بكيت بنفس الهستيرية التي ضحكت بها قبل لحظات، جاء يوسف إلي وصار يصبرني وقال كلاما كثيرا لم أكن أسمعه، تعبت من سماع الأوامر لا أريد شيئا سوى العودة إلى أمي ولم يعد أمامي سوى حل واحد أن أتبع هذه الطريق فأنجو أو أهلك! وقفت ومسحت دموعي ثم أعدت الأسنان إلى فمي ولم يعد يهمني هل هي أسنان إنسان أم ديناصور وأمسكت الخنجر بيدي اليمنى؛ “بل بيدك اليسرى” خاطبني الأقرع، شققت الحنش من المنتصف دون أن أفكر وفتحت فمي حيث كان الدم يتدفق وكان الأقرع يصرخ “إشرب؛ إشرب” إلى أن انقطع الدم وفتحت عيني، لقد غمر دم الثعبان كل جسدي، نظرت فوجدت يوسف والضخم فاغرين فمهما، لقد تعجبا من صبر هذا الفتى الذي لم ينتهي بعد!

ألقى الأقرع بقايا الحنش في البئر وجعلني أقتعد الأرض ووضع يده على رأسي وصار يتلو بعض تعاويذه الغريبة وهو يبكي ثم أوقفني وأمرني أن أفتح فمي وبصق فيه، وأمرني أن أبصق تلك الأسنان في يده ثم رماها في البئر، إتجهت إلى البئر وأصغيت لعلني أجد صوت المياه لكنني لم أجد شيئا بسبب عمق البئر، وضع يوسف والضخم السلم داخل البئر ثم خاطبني يوسف: هل رأيت درجي الحديد الناتئتين من جوف البئر؟ ستضع رجلك على واحدة وتمسك بالأخرى، سألته: هل ستُصعدونني بسرعة؟ لم يجبني وأضاء البئر بمصباحه.

مع أول درج وضعت عليه قدمي أحسست أنني لن أخرج من هذه البئر مرة أخرى، كل إنسان يفكر بعقله لم يكن ليفعل ذلك، لكنني لم أكن أفكر وقتها ولم أكن على سجيتي، ومع كل خطوة كنت أنزلها كنت أجد وجوههم ممتقعة، هل من ثقل السلم أم من شيء آخر؟ لا أدري! وصلت إلى القعر أخيرا، فناداني الأقرع من أعلى: هل كل شيء على ما يرام هناك؟ لم أكن قادرا على الكلام أومأت برأسي فقط، سحبوا السلم وأغمضت عيني لأنني لم أعد قادرا على فتحهما، كنت أسمعهم وهم يجمعون معداتهم ثم بدأ الضجيج يخفت والخطوات تبتعد، بدأت أصيح: يوسف! يوسف! صرخت وبكيت وتوسلت لكنني عندما صمت لم أكن أسمع شيئا، لقد رحلوا بعيدا!

أنت الذي تقرأ الآن أغمض عينيك وتخيل نفسك مكاني، لم تستطع أليس كذلك؟ أنا بدوري لم أستطع! لم أستطع صبرا هذه المرة وبقيت أصيح كأنني أصبت بالسعار، بكيت إلى أن جفت المآقي، صرخت حتى كاد حلقي ينشق، تمنيت الموت ولم أجده، أردت أن أقتل نفسي ولم أجد شيئا يعينني على ذلك! كنت أرفع رأسي فلا أرى سوى النجوم والسماء، كان صدى صيحاتي هو مؤنسي في هذه الوحشة وصوت الرياح في الأعلى وصوت المياه في الأسفل، لن أنسى ما حييت هذه الأوقات…
لم أكن أبكي بسبب الخوف ولكن لأنني سأموت وحيدا دون أن يعرف أحد بموتي كأي بعوضة أو ذبابة تموت دون أن يهتم أحد لموتها، أردت أن أترك درجي الحديد وأقع في الماء لكنني لم أقدر، كنت قد يئست من كل نجاة، فكرة واحدة كانت تتردد في ذهني وقتها أن الدم الذي شربت مسموم وكنت أدعو الله مخلصا أن يكون كذلك لأنتهي بسرعة، أمضيت بقية الليل أصرخ وأصيح وأبكي، رفعت رأسي مرة أخرى فوجدت الليل بدأ يتحول إلى نهار، في تلك اللحظة كان التعب قد نال مني وكدت أطلق يدي وشعرت بوجع شديد في بطني ثم بدأت أتقيأ، تقيأت وكأنني أكلت التراب! كادت أمعائي تخرج من فمي، كأن جبلا كان فوق صدري وأزحته! بح صوتي وجمدني البرد وأحرقني العطش، أغمضت عيني وألهمني عقلي أن أدعو الله، فمادام يوجد بئر هنا وبه ماء فرعاة الضأن سيقدمون لا محالة لأنهم يخرجون كل صباح!

بقيت على تلك الحال ساعات لم أعلم عددها… إلى أن جاءت لحظة سمعت فيها صوتا بشريا بعيدا يهمهم بشيء، بدأ الصوت يقترب شيئا فشيئا، لقد كان صوتا يتلو القرآن، طريقة الترتيل كانت تشبه تلك التي يتلون بها في المقابر، هل يمكنك تخيل الطريقة التي صرخت بها؟ كدت أتسلق جدران البئر… صرخت مرارا ودموع الفرح تفيض من عيني، فلو سمعت نباح كلب وقتها لفرحت! توقف صوت التلاوة وبدأ صوت الركض يقترب… ثم سمعت أجمل صوت في حياتي! “أشرف!!”

لم أتبين صاحب الصوت في البداية بسبب أشعة الشمس ولم أر سوى رأسين تخترقهما تلك الأشعة… كان الشخصان يناديان علي لكنني لم أعد أملك القوة للجواب كنت أريد فقط أن يخرجاني من هناك… أنزلا السلم، أردت أن أعانق السلم… لم أعد أذكر شيئا إلى أن وجدت نفسي فوق اليابسة والرجلان واقفان عند رأسي، سيطرت علي نفس الضحكات الهستيرية مجددا! هل تعرفون ضحكات النصر؟؟ لقد انتصرت على الموت! وكأنني خرجت من رحم أمي مجددا! ضمني الرجلان إليهما وأنا أسمع في أذني ذلك الصوت المحبب: أشرف؛ بني؛ هذا أنا هل عرفتني؟
كان الرجلان يتكلمان معي ويحاولان تثبيتي، كنت أرى الشجر، وأشعر بالرياح تلفح وجهي وأتأمل وجهيهما كأعمى أبصر النور لأول مرة في حياته! أحدهما كان ممسكا بكتفي يحركه: أنا معك يا بني لا تخف! لقد جئت يا بني!

نظرت إلى وجهه للحظات ثم صرخت: موحى!
عانقني بقوة ودموعه تسيل على صدري، لم أرد أن أتركه لحظة، كنت خائفا من كل شيء! حتى من نفسي! كان معه رجل من أجمل خلق الله وقد غرغرت عيناه بالدموع، لم أره من قبل في حياتي، ودون أن ينطق كلمة واحدة عانقته وكأنني أعرفه منذ زمن بعيد…
رفع الشيخ موحى رأسه للسماء لاهجا بالحمد وأمسكا بيدي وهما يسألان: ألا يوجد فيك خطب؟ هل ترى جيدا؟ ماذا حدث لك؟ لم أجد القدرة على الكلام، كنت أكتفي بالتحديق فيهما، ساعداني على ارتداء ملابسي التي ظلت ملقاة إلى جوار البئر، لكنني لم أجد الحذاء! لم يرحمني ذلك الخنزير، لم يكن الحذاء ليناسب قدمه الضخمة على أية حال!
كان الشيخ الذي مع موحى يدعى ياسين… نزع بلغته (نعل تقليدي مغربي) ووضعها في قدمي…يا للمسكين! لم أكن أريد في تلك اللحظة سوى أن أشرب الماء، ما أغرب أمر الدنيا! أن تخرج من بئر وأنت عطشان! طلبا مني أن أصبر إلى أن نصل، كنت أستعين بهما كعكازين وهما لا يفتران عن قراءة القرآن، سلكنا طريقا غير الطريق التي أتيت منها ووصلنا بسرعة إلى إحدى القرى التي كانت تقع خارج الغابة، كانت الأراضي الفلاحية تحيط بتلك القرية من كل جانب، وعند مدخل القرية عرفت أنها ليست نفس القرية التي أكلنا فيها أنا وأولئك الملاعين، التفت إلى الشيخ موحى وسألته: أين نحن؟
قال: لا تتكلم يا بني، وعندما وصلنا إلى وسط القرية وجدنا جمهورا من الناس ينتظرون، الكثير من العيون تحدق في ولا أسمع سوى همهمات: لقد وجدوه! لقد جاؤوا! هل هو المقصود؟ كان الكلام كله عني.

***

تسارعت خطوات الشيخ موحى والشيخ ياسين وأنا مسنود بينهما… التفت خلفي فوجدت ذلك الحشد الغفير يتبعنا ثم صعدنا مرتفعا وعرا، كنت مرهقا وعطشانا، وصلنا إلى مسجد يقبع على رأس التل، دخلت أنا والشيخ موحى وبقي ياسين في الخارج يكبح جماح الحشود التي كانت متجمهرة حول المسجد، المسجد رغم بساطته كان جميلا والزرابي المفروشة فيه نظيفة، وفي إحدى الزوايا كانت ألواح الحفظ متراصة، أقعدني موحى على الأرض وطلب مني الانتظار، دخل ياسين وأقفل باب المسجد وجلس بالقرب مني، ثم نهض وأحضر قربة ماء، ارتميت عليها وصرت أكرع ما فيها من ماء ثم أخذها ياسين من يدي محذرا: قد تشرق إن شربت بهذه الطريقة!

جاء موحى ومعه شيخ طاعن في السن قد جاوز الثمانين من عمره، قرب العجوز وجهه من وجهي وصار يحملق في تفاصيله، في تلك الأثناء كان الشيخ موحى والشيخ ياسين يتكلمان وما فهمته من كلامهما أن جميع سكان القرية كانوا يبحثون عني وينتظرون مجيئي، لم أفهم كيف عرف الناس بقصتي وكيف ظهر الشيخ موحى فجأة ووجدني! لم أكن قادرا على الكلام أو طرح الأسئلة، الجملة الوحيدة التي خرجت من فمي: أعطوني الهاتف كي أكلم أمي.
عانقني موحى وقال: أصبر، كل شيء بأوانه.
التفت إليهم الشيخ الكبير قائلا: على بركة الله نبدأ؟
صحت فزعا: لا أريد شيئا آخر دعوني وشأني!
أمسك الشيخ موحى بيدي وقال مطمئنا: لا داعي للخوف يا بني، أنا إلى جانبك وستنسى كل شيء بإذن الله تعالى.

أدخلوني إلى إحدى الغرف وكانت مفتوحة السقف، كانت هناك مغسلة للموتى ومحمل وُضع عليه كفن، خاطبني العجوز: هذا كان لك يا ولدي أشرف، لكنه الآن مكتوب لأحد غيرك، قال الشيخ موحى: إسمع يا أشرف، علينا أن نختنك من جديد.
سألته مندهشا: كيف؟
“كما سمعت يا بني”

وضعتُ يدي على حجري وصحت: لا يمكن، هل جننتم؟

كان المشهد مضحكا، أقعدني موحى إلى جواره وشرح لي بأن الختانة ستكون رمزية هذه المرة، أجلسوني على لوح، دخل الشيخ ياسين وفي يده دلوي ماء وخاطبني: إنزع ملابسك كي نغسلك، فعلتُ ما طلبوه، لقد غسلوني كما يغسل الموتى ثم أوقفوني ولفو الفوط حول جسمي، أعطاني موحى كيسا فيه كندورة جديدة وملابس داخلية جديدة، وطلب مني أن أرتديها، جاء العجوز وأعطاني قطعة مسك وطلب مني أن أمسح به على جسمي وخلف أذني، ثم سألني موحى عن حالي فأومأت برأسي أنني بخير، فأوقفني ووقفوا جميعهم أمامي ثم شرعوا في تلاوة دعاء جماعة لم أعد أذكر منه سوى “باسم الله الرحمن الرحيم إن هذا العبد الضعيف…” لأنهم كانوا ينطقون بسرعة، وعندما انتهوا تقدم مني الشيخ ياسين مبتسما إلى أن اقترب من أذني وبدأ يؤذن، شعرت براحة عظمى، ثم تقدم موحى وطلب مني أن أنطق الشهادتين بصوت مرتفع، وفي تلك اللحظة فهمت أنني سأصبح مسلما وأن كل شيء قد انتهى، وأن حياة جديدة تنتظرني، لقد ابتلاني الله ابتلاء عظيما وهو الغفور الرحيم المحب لعباده، رفعت أصبعي وأغمضت عيني وكانت أجمل لحظة في حياتي نسيت فيها كل شيء مررت به، نطق لسان حالي ومقالي معا “أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله”

فتحت عيني وهما مغرورقتان بالدموع، وكان أول صوت أسمعه صوت موحى: مرحبا بك في دين الحق، مرحبا بك في دين الإسلام! سلموا علي ثلاثتهم وخرجنا من المسجد وانتقلنا إلى منزل ملاصق له، لقد كان منزل الشيخ ياسين، الدار كانت جميلة على بساطتها وجدرانها بيضاء ناصعة، توجهنا إلى إحدى الغرف المفروشة بشكل جميل، سألت العجوز عن المكان الذي نتواجد فيه، فأخبرني أن أتمهل وأنني سأعرف كل شيء لاحقا، دخل خلفنا موحى وفي يده الهاتف: إنها أمك

“بني” كان أحن صوت أسمعه في حياتي، بكينا معا ثم حاولت طمأنتها أنني على ما يرام وأنني سآتي في أقرب وقت، لم أستطع سماعها وهي تبكي بتلك الطريقة فقطعت الخط، قال لي الشيخ ياسين: لا تقلق إنها دموع فرحها

ثم جاء الفطور ووقعت في الأكل كأنني لم أذق النعمة من قبل، وعندما انتهينا اقترح علي موحى أن نخرج لنستنشق بعض الهواء النقي، وبينما نحن نتمشى سألته: أين نحن؟ فأخبرني: نحن في منطقة قريبة من الريف تدعى “باب برد”، لقد كنا في “تاوريرت” فكيف وصلنا إلى “باب برد”؟ قال: عليك أن ترتاح الآن ليس وقت هذه الأسئلة، عدنا إلى القرية وكل من كان يلقانا في الطريق يسلم علينا ويعانقنا والنساء يزغردن، أمضيت يوما رائعا رفقة هؤلاء البسطاء الطيبين، تعشينا ثم خاطبني موحى: إنهض يا بني إلى المسجد نريد أن نتحدث معك، توجهنا إلى المسجد، أقفلوا بوابته وأشعلوا مجمرا اتقاء البرد وأقعدوني وسطهم، نظر إلي موحى وقال: هل أنت على ما يرام الآن؟
أجبت: نعم الحمد لله، ثم قال: إسمع ما سيخبرك به الشيخ مختار، فتكلم العجوز: نحن نعرف أنك لم تتجاوز تجربتك المريرة بعد ولكننا نحتاج أن تحكي لنا كل ما وقع لك يا بني من الأول إلى الأخير.

سكت لبرهة، استرجعت كل تلك الذكريات المريرة وبدأت أحكي لهم منذ لقائي بالأقرع في مدخل حينا إلى اللحظة التي تركوني معلقا في البئر… وعندما انتهيت، ظلوا ينظرون في بعضهم مبهوتين، عرض علي الشيخ ياسين أن أرتاح في منزله ونمت ملء جفوني تلك الليلة إلى أن داعب شعاع الشمس القادم من إحدى النوافذ المسيجة وجهي، تناولنا الفطور جماعة وودعت الشيخ ياسين والشيخ مختار وانطلقنا أنا والشيخ موحى إلى مدينتي، كان الشيخ موحى رجلا ذا إدراك عميق وحاول أن يوصل إلي الأمور بشكل بسيط ومتدرج، أفهمني في البدء أن كل ما حدث لي إنما هو قضاء من الله وقدر وأن لا ذنب له في ذلك كله، ووضح لي علاقته بيوسف وأنها كانت علاقة سطحية من خلال الصديقين المشتركين اللذين قدما معه إلى منزلنا في أول مرة.

حكى لي موحى أنهم عندما خرجوا من منزلنا كان يوسف مستعجلا ويتحدث كثيرا في الهاتف رغم أن موحى كان يحاول مرارا استفساره عن مسألة رجل الخميسات تلك، إلا أنه كان يعطيه أجوبة مبهمة ومعممة واعدا إياه أن كل شيء سيكون على ما يرام، وعندما وصل إلى “تارودانت”، لم يجد موحى هاتفه الذي كان قد وضعه في حقيبة اليد خاصته ولم يفهم كيف ضاع منه، وفي الغد ذهب إلى أصدقائه الشيوخ الذين حضروا معه، وطلب منهم رقم هاتف يوسف حتى يستفسر منه عن التفاصيل وعن الهاتف إلا أن يوسف لم يكن يجيب على أي اتصال فكان خط الاتصال الوحيد هو بيني وبين يوسف، وأخبرني أن يوسف والأقرع وذلك الضخم لم يكونوا سوى مشعوذين وأن المنطقة التي كنا فيها كانت مشهورة بأسطورة تقول أنه يوجد بها كنز عظيم وأشياء أعظم من الكنز ولا تقدر بثمن، ليست ذهبا ولا نقودا وإنما هي “المدفونة” هكذا قال الشيخ موحى، قال موحى أن ذلك الأقرع حاول إخراج تلك المطمورة مرتين من قبل لم تكللا بالنجاح

وفي المحاولة الأخيرة أصيب شخص كان معهم بالشلل وهو ابن المنطقة التي كانت توجد بها العائلة المعوزة التي ذهبنا إليها في البداية، وهذا ما يفسر صراخ تلك المرأة العجوز المتواصل في وجهي، كانت الدفينة محمية من طرف ملك جن الغاب كما قال موحى، ولم يكن في مقدور أي أحد أن يخرجها إلا إذا توفرت فيه مواصفات خاصة وبطقوس معقدة، وتلك المواصفات كانت متوفرة في للأسف، حاولت أن أفهم من موحى لماذا أنا بالضبط؟ لكنه لم يكن يفهم جيدا السبب وأن ما توصل إليه من نتائج كان بناء على تحليلات قام بها رفقة الشيخ ياسين والشيخ مختار في المسجد، وأن الممارسات التي حكيتُ لهم عنها كانت غريبة ولم يسمعوا بها من قبل. بدا لي كلام الشيخ موحى متذبذبا ما جعلني أشك في أن له يدا في الموضوع، وبعد إلحاحي عليه بإخباري كل شيء يعرفه قال لي أن خطط يوسف بدأت في عشية اليوم الذي كان قادما فيه إلى منزلنا بمعية الأقرع، وكان قد اتصل بأصدقاء موحى المشتركين وأخبرهم أن السبيل الوحيد لخلاصي من تبعية الجن هو الموت؛ كيف؟ يجب أن أصل إلى مرحلة أتمنى فيها الموت دون أن أدركه أو حتى أجد وسيلة للانتحار، وهكذا كان حالي في البئر، فإما كنت سأنجو من تبعية الجن لكن بعاهة عقلية مستدامة أو أموت مشركا، إن استدعاء الجن ليس بالأمر الهين كما يخيل للبعض، فهم ليسوا لعبة في يد البشر يحضرونها بمزاجهم ويصرفونها متى أرادوا! هذا الاستدعاء ينطوي على اتفاق ضمني هو أن تكون ملكا للكائن الذين استدعيته من العالم الآخر وفي المقابل يصير هذا الكائن ملكا لك وأن الطاعة المطلقة لا تكون منه فقط بل منك أيضا فلكل شيء ثمنه، إنها علاقة تبعية مزدوجة ولا شيء يستطيع التفرقة بينكما بعد ذلك سوى الموت والذي عليك أن تصل إليه بقناعة تامة، وهذه الوصفة التي طُبقت في حالتي.

عندما علم موحى بخطة يوسف لم يجد الوقت للسؤال عما حدث وكيف أخذوني معهم والشيء الوحيد الذي كان قادرا على فعله هو اللحاق بي في أقرب وقت ممكن، كان يوسف قد حدد لأصدقاء موحى من قبل المنطقة التي سأتواجد فيها ونقطة البئر التي سيجدونني فيها بالتحديد ثم ختم كلامه ببرود: “إذا وجدتموه ميتا لا تعرفونني ولا أعرفكم” ثم أغلق هاتفه. كان موحى يتقلب على نار الحيرة، لقد قرر في البدء أن يتراجع وينسحب من الموضوع برمته خاصة وأن المسألة فيها موت وأنه يقد يتعرض لمتاعب كبيرة، لكنه تراجع عن خوفه بعد ذلك وقرر أن يلحق بنا، لم يكن يوسف يجيب على اتصالاته، استعان موحى بسكان القرية القريبة من تلك الغابة بزعامة فقيه المسجد الشيخ ياسين وكذا الشيخ مختار وبحثوا في سبعين بئر تقريبا دون جدوى، لقد بدؤوا يفقدون الأمل في إيجادي، وكادوا يتوقفون عن بحثهم إلى أن أرسل الله حطابا من تلك الغابة ليخبر موحى أن هناك بئرا في أعماق الغابة قلة يعرفونها وأنه لا يستعمل ماءها سوى القناصون في مواسم القنص، وهكذا وجدوني في تلك البئر بين الحياة والموت، تحدثنا كثيرا أنا والشيخ موحى، حاولت فهم سر طقوس اليد والأسنان والذئب لكنه نفسه لم يفهم شيئا منها وأخبرني أنه لن يهنأ له بال حتى يجد أولئك الأوغاد ويعرف منهم كل شيء، وصلنا أخيرا إلى مدينتي ووجدت أمي تنتظرني… لم أستطع أن أصبر إلى أن يتوقف الباص فقفزت منه وعانقتها عناق من لا يريد فراقا، لقد أقسمت ألا أفارقها مرة أخرى في حياتي أو حياتها، لن أسهب في وصف اللحظات فهي تصف نفسها تلقائيا، وعندما وصلنا ثلاثتنا إلى المنزل أول ما أزمعت فعله هو أن أحرق ذلك الكتاب لكن موحى نهاني وأخبرني أنني سأعرف السبب فيما بعد، تركته يشرح لأمي ما حدث وكنا قد اتفقنا ألا يخبرها شيئا من المصائب التي حدثت لي…

مرت الأيام وكنت أتحسن ببطء، لقد صرت مداوما على حصص العلاج النفسي وحصص الرقية الشرعية في نفس الآن، وكانت نظرتي للحياة قد تغيرت تماما وأصبحت نظرة عجوز قضى فيها عقودا من عمره، كانت أمي وبحكم الظروف العائلية مضطرة للسفر عند أبي ما حتم علي الجلوس وحيدا في البيت، وكان هذا أول اختبار حقيقي لي، مرت الأيام بطيئة في روتينها إلى أن جاء يوم كنت أشاهد فيلما لأسمع في أذني فجأة: أعد تلك اللقطة، وهنا ستبدأ قصة أخرى… هل تعلمون؟ بهقاء لم ترحل وقد عادت، وعودتها هذه المرة كانت أسوأ من الأول، لقد أقسمت أن تفرق بيني وبين كل عزيز لأنني أردت مفارقتها، وهذا ما حدث، أمي وأبي اللذين أمضيا معا في الغربة والحب أزيد من ثلاثين سنة تطلقا، أمي أصبحت دائمة المرض والوهن، وأنا ما زلت أرى أشياء فظيعة في نومي وأستيقظ لأجد جسدي منهوشا أو مكدوما أو معضوضا… لكنني أقسمت ألا أستسلم، عدت إلى مقاعد الدراسة مجددا وسأحاول أن أشق مساري المهني وأن أخرج من المنزل، وهنا أشكر كل شخص دعا معي في محنتي، النهاية”.

ملاحظة : القصة واقعية بناء على ما حكاه صديق لي

البشروحاني

باحث في علوم ما وراء الطبيعة

مقالات ذات صلة

ضع ردك أو سؤالك هنا ..

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى